فصل: سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن ‏(‏ السماع‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن ‏[‏ السماع‏]‏

فأجاب ‏:‏

‏[‏السماع‏]‏ الذي أمر الله به ورسوله، واتفق عليه سلف الأمة ومشائخ الطريق‏:‏ هو سماع القرآن، فإنه سماع النبيين، وسماع العالمين، وسماع العارفين، وسماع المؤمنين، قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏58‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏107‏:‏ 109‏]‏‏.‏

وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 83‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2-4‏]‏، وقال سبحانه وتعالى‏:‏‏{‏وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏204‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏23‏]‏، وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 18‏]‏، وهذا كثير في القرآن‏.‏

وكما أثنى سبحانه وتعالى على هذا السماع، فقد ذم المعرضين عنه، كما قال‏:‏ ‏{‏لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏26‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏73‏]‏، وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏49، 50‏]‏، وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 57‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏22، 23‏]‏، وقال سبحانه وتعالى ‏[‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ُ‏}‏‏[‏لقمان‏:‏7‏]‏ ‏.‏

وهذا كثير في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين يمدحون من يقبل على هذا السماع ويحبه ويرغب فيه، ويذمون من يعرض عنه ويبغضه، ولهذا شرع الله للمسلمين في صلاتهم ولطسهم، شرع سماع المغرب، والعشاء الآخر‏.‏ وأعظم سماع في الصلوات سماع الفجر الذي قال الله فيه‏:‏ ‏{‏وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏78‏]‏، وقال عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ يمدح النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏

وفينا رسول الله يتلو كتابــــه ** إذا انشق معروف من الفجر ساطع

يبيت يجافي جنبه عن فراشـه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجــــع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقنات أن ما قال واقـــــــــع

وهو مستحب لهم خارج الصلوات، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه خرج على أهل الصفة وفيهم واحد يقرأ وهم / يستمعون، فجلس معهم، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون‏.‏

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول‏:‏ يا أبا موسى،ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون، ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى وهو يقرأ‏:‏ فجعل يستمع لقراءته، وقال‏:‏ ‏(‏لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير داود‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏يا أبا موسى،لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك‏)‏ فقال‏:‏لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرًا‏.‏ أي‏:‏ حسنته لك تحسينًا ‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس منا من لم يتغن بالقرآن‏)‏، ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏لله أشد أذنا للرجل حسن الصوت، من صاحب القينة إلى قينته‏)‏ وقوله‏:‏‏(‏ما أذن الله أذنا‏)‏ أي سمع سمعًا، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏2‏]‏ أي سمعت، والآثار في هذا كثيرة‏.‏

وهذا سماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية، والأحوال الزكية يطول شرحها، ووصفها‏.‏ وله في الجسد آثار محمودة‏.‏ من خشوع القلب، ودموع العين، واقشعرار الجلد، وقد ذكر الله هذه الثلاثة في القرآن‏.‏ وكانت موجودة في أصحاب رسول الله /صلى الله عليه وسلم الذين أثنى عليهم في القرآن، ووجد بعدهم في التابعين آثار ثلاثة‏:‏ الاضطراب، والاختلاج، والإغماء أو الموت، والهيام؛ فأنكر بعض السلف ذلك إما لبدعتهم، وإما لحبهم‏.‏

وأما جمهور الأئمة والسلف فلا ينكرون ذلك، فإن السبب إذا لم يكن محظورًا كان صاحبه فيما تولد عنه معذورًا‏.‏ لكن سبب ذلك قوة الوارد على قلوبهم،وضعف قلوبهم عن حمله فلو لم يؤثر السماع لقسوتهم كانوا مذمومين، كما ذم الله الذين قال فيهم‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏74‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏16‏]‏، ولو أثر فيهم آثارا محمودة لم يجذبهم عن حد العقل‏.‏ لكانوا كمن أخرجهم إلى حد الغلبة كانوا محمودين أيضًا ومعذورين‏.‏

فأما سماع القاصدين لصلاح القلوب في الاجتماع على ذلك‏:‏ إما نشيد مجرد، نظير الغبار، وإما بالتصفيق، ونحو ذلك‏.‏ فهو السماع المحدث في الإسلام، فإنه أحدث بعد ذهاب القرون الثلاثة الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ ‏(‏خير القرون‏:‏ القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏)‏ وقد كرهه أعيان الأمة ولم يحضره أكابر المشايخ‏.‏

/وقال الشافعي ـ رحمه الله ـ‏:‏ خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن‏.‏

وسئل عنه الإمام أحمد بن حنبل فقال‏:‏هو محدث أكرهه،قيل له‏:‏ إنه يرق عليه القلب، فقال‏:‏لا تجلسوا معهم‏.‏ قيل له‏:‏ أيهجرون‏؟‏ فقال‏:‏لا يبلغ بهم هذا كله، فبين أنه بدعة لم يفعلها القرون الفاضلة، لا في الحجاز، ولا في الشام،ولا في اليمن،ولا في مصر،ولا في العراق، ولا خراسان، ولو كان للمسلمين به منفعة في دينهم لفعله السلف‏.‏

ولم يحضره مثل‏:‏ إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا السري السقطي، ولا أبو سليمان الداراني، ولا مثل الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي البيان، ولا الشيخ حياة، وغيرهم، بل في كلام طائفة من هؤلاء ـ كالشيخ عبد القادر وغيره ـ النهي عنه‏.‏ وكذلك أعيان المشائخ‏.‏

وقد حضره من المشائخ طائفة، وشرطوا له المكان، والإمكان، والخلان، والشيخ الذي يحرس من الشيطان‏.‏ وأكثر الذين حضروه من المشائخ الموثوق بهم رجعوا عنه في آخر عمرهم‏.‏ كالجنيد فإنه حضره وهو شاب، وتركهم في آخر عمره، وكان يقول‏:‏ من تكلف السماع / فتن به، ومن صادفه السماع استراح به‏.‏ فقد ذم من يجتمع له، ورخص فيمن يصادفه من غير قصد‏.‏ ولا اعتماد للجلوس له‏.‏

وسبب ذلك أنه مجمل ليس فيه تفصيل‏.‏ فإن الأبيات المتضمنة لذكر الحب، والوصل والهجر، والقطيعة، والشوق، والتتيم، والصبر على العذل واللوم ونحو ذلك، هو قول مجمل، يشترك فيه محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الإخوان، ومحب الأوطان، ومحب النسوان، ومحب المردان‏.‏ فقد يكون فيه منفعة إذا هيج القاطن، وأثار الساكن، وكان ذلك مما يحبه الله ورسوله‏.‏ لكن فيه مضرة راجحة على منفعته‏:‏ كما في الخمر والميسر،فإن فيهما إثم كبير، ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما‏.‏

فلهذا لم تأت به الشريعة، لم تأت إلا بالمصلحة الخالصة أو الراجحة‏.‏

وأما ما تكون مفسدته غالبة على مصلحته، فهو بمنزلة من يأخذ درهما بدينار، أو يسرق خمسة دراهم، ويتصدق منها بدرهمين‏.‏

وذلك أنه يهيج الوجد المشترك، فيثير من النفس كوامن تضره آثارها، ويغذي النفس ويفتنها، فتعتاض به عن سماع القرآن، حتى لا يبقى فيها محبة لسماع القرآن ولا التذاذ به، ولا استطابة له، بل / يبقى في النفس بغض لذلك، واشتغال عنه، كمن شغل نفسه بتعلم التوراة والإنجيل، وعلوم أهل الكتاب، والصابئين واستفادته العلم والحكمة منها، فأعرض بذلك عن كتاب الله وسنة رسوله، إلى أشياء أخرى تطول‏.‏

فلما كان هذا السماع لا يعطي بنفسه ما يحبه الله ورسوله من الأحوال والمعارف، بل قد يصد عن ذلك، و يعطي مالا يحبه الله ورسوله، أو ما يبغضه الله ورسوله، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا سلف الأمة ولا أعيان مشائخها‏.‏

ومن نكته أن الصوت يؤثر في النفس بحسنه‏:‏ فتارة يفرح، وتارة يحزن، وتارة يغضب، وتارة يرضى، وإذا قوى أسكر الروح فتصير في لذة مطربة من غير تمييز‏.‏ كما يحصل للنفس إذا سكرت بالرقص، وللجسد أيضًا إذا سكر بالطعام والشراب، فإن السكر هو الطرب الذي يؤثر لذة بلا عقل، فلا تقوم منفعته بتلك اللذة بما يحصل من غيبة العقل، التي صدت عن ذكر الله وعن الصلاة، وأوقعت العداوة والبغضاء‏.‏

و بالجملة فعلى المؤمن أن يعلم‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئًا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به، ولا شيئًا يبعد عن / النار إلا وقد حدث به، وإن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله ورسوله، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏3‏]‏، وإذا وجد فيه منفعة لقلبه، ولم يجد شاهد ذلك، لا من الكتاب ولا من السنة، لم يلتفت إليه‏.‏

قال سهل بن عبد الله التستري‏:‏كل وجد لايشهد له الكتاب والسنة فهو باطل‏.‏

وقال أبو سليمان الداراني‏:‏ إنه لتلم بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين‏:‏ الكتاب، والسنة،وقال أبوسليمان أيضًا‏:‏ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يجد فيه أثرًا‏.‏ فإذا وجد فيه أثرًا كان نورًا على نور‏.‏

وقال الجنيد بن محمد‏:‏ علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يصلح له أن يتكلم في علمنا‏.‏

و أيضا فإن الله يقول في الكتاب‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏35‏]‏، قال السلف من الصحابة والتابعين‏:‏ ‏[‏المكاء‏]‏ كالصفير ونحوه، من التصويت، مثل الغناء‏.‏ و‏[‏التصدية‏]‏‏:‏ التصفيق باليد‏.‏ فقد أخبر الله عن المشركين أنهم كانوا يجعلون التصدية / والغناء لهم صلاة، وعبادة، وقربة، يعتاضون به عن الصلاة التي شرعها الله ورسوله‏.‏

وأما المسلمون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان‏:‏ فصلاتهم وعبادتهم القرآن، واستماعه، والركوع والسجود، وذكر الله ودعاؤه، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله، فمن اتخذ الغناء والتصفيق عبادة وقربة فقد ضاهى المشركين في ذلك، وشابههم فيما ليس من فعل المؤمنين‏:‏ المهاجرين والأنصار‏.‏ فإن كان يفعله في بيوت الله فقد زاد في مشابهته أكبر وأكبر‏.‏ واشتغل به عن الصلاة وذكر الله ودعائه، فقد عظمت مشابهته لهم‏.‏ وصار له كفل عظيم من الذم الذي دل عليه قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏‏.‏

لكن قد يغفر له ذلك لاجتهاده، أو لحسنات ماحية، أوغير ذلك‏.‏ فيما يفرق فيه بين المسلم والكافر‏.‏ لكن مفارقته للمشركين في غير هذا لا يمنع أن يكون مذمومًا خارجًا عن الشريعة، داخلًا في البدعة التي ضاهى بها المشركين، فينبغي للمؤمن أن يتفطن لهذا، ويفرق بين سماع المؤمنين الذي أمر الله به ورسوله، وسماع المشركين الذي نهى الله عنه ورسوله‏.‏

/ويعلم أن هذا السماع المحدث هو من جنس سماع المشركين، وهو إليه أقرب منه إلى سماع المسلمين، وإن كان قد غلط فيه قوم من صالح المسلمين،فإن الله لا يضيع أجرهم وصلاحهم، لما وقع من خطئهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد‏)‏‏.‏

وهذا كما أن جماعة من السلف قاتلوا أمير المؤمنين عليا بتأويل، وعلي بن أبي طالب وأصحابه أولى بالحق منهم، وقد قال فيهم‏:‏ من قصد الله فله الجنة‏.‏

وجماعة من السلف والخلف استحلوا بعض الأشربة بتأويل ـ وقد ثبت بالكتاب والسنة تحريم ما استحلوه ـ وإن كان خطؤهم مغفورًا لهم‏.‏

والذين حضروا هذا السماع من المشائخ الصالحين شرطوا له شروطًا لا توجد إلا نادرًا، فعامة هذه السماعات خارجة عن إجماع المشائخ، ومع هذا فأخطؤوا ـ والله يغفر لهم خطأهم فيما خرجوا به عن السنة ـ وإن كانوا معذورين‏.‏

والسبب الذي أخطؤوا فيه أوقع أممًا كثيرة في المنكر الذي نهوا / عنه، وليس للعالمين شرعة ولا منهاج، ولا شريعة ولا طريقة أكمل من الشريعة التي بعث الله بها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم كما كان يقول في خطبته‏:‏ ‏(‏خير الكلام كلام الله،وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

ومن غلط بعضهم توهمه أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين حضروا هذا السماع، سماع المكاء والتصدية، والغناء والتصفيق بالأكف، حتى روى بعض الكاذبين أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشده أعرابي شعرًا، قوله‏:‏

قد لسعت حية الهوى كبدي ** فلا طبيب لها ولا راقي‏.‏

سوى الحبيب الذي شغفت به ** فمنه دائي ومنه ترياقي‏.‏

وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه، وقال‏:‏ ‏(‏ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب‏)‏‏.‏ وهذا الحديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأحواله‏.‏

كما كذب بعض الكذابين‏:‏ أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع / المشركين، وأمثال هذه الأمور المكذوبة إنما يكذبها من خرج عن أمر الله ورسوله، وأطبقت عليه طوائف من الجاهلين بأحوال الرسول وأصحابه، بل بأصول الإسلام‏.‏

وأما ‏[‏الرقص‏]‏ فلم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من الأئمة بل قد قال الله في كتابه‏:‏ ‏{‏وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ‏}‏ ‏[‏لقمان ‏:‏19‏]‏، وقال في كتابه‏:‏ ‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ

هَوْنًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏63‏]‏، أي‏:‏ بسكينة، ووقار‏.‏

وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود، بل الدف والرقص في الطابق لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من سلف الأمة، بل أمروا بالقرآن في الصلاة، والسكينة، ولو ورد على الإنسان حال يغلب فيها حتى يخرج إلى حالة خارجة عن المشروع، وكان ذلك الحال بسبب مشروع، كسماع القرآن و نحوه، سلم إليه ذلك الحال كما تقدم، فأما إذا تكلف من الأسباب ما لم يؤمر به، مع علمه بأنه يوقعه فيما لا يصلح له‏:‏ مثل شرب الخمر، مع علمه أنها تسكره، وإذا قال‏:‏ ورد على الحال، وأنا سكران قيل له‏:‏ إذا كان السبب محظورًا، لم يكن السكران معذورًا‏.‏

فهذه الأحوال الفاسدة من كان فيها صادقًا فهو مبتدع، ضال، من جنس خفراء العدو، وأعوان الظلمة،من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضارعوا عباد النصارى، والمشركين، والصابئين في بعض ما لهم من الأحوال، / ومن كان كاذبًا فهو منافق ضال‏.‏

قال سيد المسلمين في وقته ـ الفضيل بن عياض ـ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏2‏]‏، قال‏:‏ أخلصه، و أصوبه، قيل له‏:‏ يا أبا علي ما أخلصه‏؟‏ وأصوبه‏؟‏ قال‏:‏ إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل ،حتى يكون خالصًا صوابًا‏.‏ والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة‏.‏

وكان يقول‏:‏ من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن زوج كريمته لصاحب بدعة فقد قطع رحمها، ومن انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا‏.‏ وأكثر إشارته وإشارات غيره من المشائخ بالبدعة إنما هي إلى البدع في العبادات والأحوال، كما قال عن النصارى‏:‏ ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏27‏]‏، وقال ابن مسعود‏:‏ عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة، ذكر الله خاليًا فاقشعر جلده من مخافة الله، إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليًا فدمعت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادا في سبيل وسنة، خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم ـ إن كانت اجتهادًا أو اقتصادًا ـ على منهاج الأنبياء وسنتهم‏.‏

/وأما قول القائل‏:‏ هذه شبكة يصاد بها العوام،فقد صدق، فإن أكثرهم إنما يتخذون ذلك شبكة لأجل الطعام، والتوانس على الطعام، كما قال الله فيهم ‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏34‏]‏، ومن فعل هذا فهو من أئمة الضلال، الذين قيل في رؤوسهم‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب ‏:‏66-68‏]‏‏.‏

وأما الصادقون منهم‏:‏ فهم يتخذونه شبكة، لكن هي شبكة مخرقة يخرج منها الصيد إذا دخل فيها، كما هو الواقع كثيرًا،فإن الذين دخلوا في السماع المبتدع في الطريق، ولم يكن معهم أصل شرعي شرعه الله ورسوله، أورثتهم أحوالا فاسدة‏.‏

وإلى عبادته ومحبته، وطاعته، والرغبة إليه، والتبتل له والتوكل عليه أحسن من الإسلامية، والشريعة القرآنية، والمناهج الموصلة الحقيقة الجامعة لمصالح الدنيا والآخرة‏.‏

/وإذا كان غير مشروع، ولا مأمور به، فالتطهر، أو الإنصات له، واستفتاح باب الرحمة هو من جنس عادة الرهبان، ليس من عبادة أهل الإسلام، والإيمان، ولا عبادة أهل القرآن، ولا من أهل السنة والإحسان، والحمد لله وحده‏.‏

/ سئل عمن قال‏:‏ إن السماع على الناس حرام وعليَّ حلال هل يفسق في ذلك أم لا‏؟‏

فأجاب ـ رضي الله عنه ‏:‏

من ادعى أن المحرمات تحريمًا عامًا‏:‏ كالفواحش، والظلم والملاهي، حرام على الناس حلال له فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ومن ادعى في الدفوف والشباب أنهما حرام على بعض الناس دون بعض فهذا مخالف للسنة، والإجماع، وأئمة الدين، وهو ضال من الضلال‏.‏ ومن تم مصرًا على مثل ذلك كان فاسقًا‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ سئل عن أقوام يرقصون على الغناء بالدف، ثم يسجد بعضهم لبعض على وجه التواضع، هل هذا سنة ‏؟‏ أو فعله الشيوخ الصالحون‏؟‏‏.‏

الجواب ‏:‏

لا يجوز السجود لغير الله، واتخاذ الضرب بالدف والغناء والرقص عبادة هو من البدع التي لم يفعلها سلف الأمة، ولا أكابر شيوخها‏:‏ كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي، والسري السقطي، وغير هؤلاء‏.‏

وكذلك أكابر الشيوخ المتأخرين مثل‏:‏ الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي مدين، والشيخ أبي البيان، وغير هؤلاء، فإنهم لم يحضروا ‏[‏السماع البدعي‏]‏ بل كانوا يحضرون ‏[‏السماع الشرعي‏]‏ سماع الأنبياء، وأتباعهم كسماع القرآن‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ سئل شيخ الإسلام عن رجل يحب السماع والرقص، فأشار عليه رجل‏.‏ فقال هذه الأبيات ‏:‏

أنكروا رقصًا وقالوا حـــرام ** فعليهم من أجل ذاك سـلام

أعبد الله يا فقيــه، وصـــل ** والزم الشرع فالسماع حرام

بل حرام عليك، ثم حـــلال ** عند قوم أحوالهم لا تــلام

مثل قوم صفوا وبان لهم من ** جانب الطور جذوة وكـلام

فإذا قوبل السمــاع بلهـــو ** فحرام على الجميع حــرام

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، هذا الشعر يتضمن منكرًا من القول وزورًا؛ بل أوله يتضمن مخالفة الشريعة، وآخره يفتح باب الزندقة والإلحاد، والمخالفة للحقيقة الإلهية الدينية النبوية‏.‏ وذلك أن قول القائل ‏:‏

مثل قوم صفوا وبان لهم من ** جانب الطور جذوة وكلام

/يتضمن تمثيل هؤلاء بموسى بن عمران، الذي نودي من جانب الطور‏.‏ ولما رأى النار قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏29‏]‏‏.‏

وهذا قول طائفة من الناس، يسلكون طريق الرياضة والتصفية، ويظنون أنهم بذلك يصلون إلى أن يخاطبهم الله، كما خاطب موسى بن عمران، وهؤلاء ثلاثة أصناف‏:‏

‏[‏صنف‏]‏ يزعمون أنهم يخاطبون بأعظم مما خوطب به موسى بن عمران‏.‏ كما يقول ذلك من يقول من أهل الوحدة والاتحاد‏.‏ القائلين بأن الوجود واحد‏.‏ كصاحب ‏[‏الفصوص‏]‏ وأمثاله‏.‏

فإن هؤلاء يدعون أنهم أعلى من الأنبياء، وأن الخطاب الذي يحصل لهم من الله أعلى مما يحصل لإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، و معلوم أن هذا الكفر أعظم من كفر اليهود والنصارى، الذين يفضلون الأنبياء على غيرهم، لكن يؤمنون ببعض الأنبياء، ويكفرون ببعض‏.‏

والنوع الثاني‏:‏ من يقول‏:‏ إن الله يكلمه مثل كلام موسى بن عمران، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة والمتصوفة، الذين / يقولون‏:‏ إن تكليم موسى فيض فاض على قلبه من العقل الفعال، ويقولون‏:‏ إن النبوة مكتسبة‏.‏

و النوع الثالث‏:‏ الذين يقولون‏:‏ إن موسى أفضل، لكن صاحب الرياضة قد يسمع الخطاب الذي سمعه موسى، ولكن موسى مقصودًا بالتكليم دون هذا، كما يوجد هذا في أخبار صاحب ‏[‏مشكاة الأنوار‏]‏، وكذلك سلك مسلكه صاحب ‏[‏خلع النعلين‏]‏، وأمثالهما‏.‏

وأما قوله في أول الشعر لمن يخاطبه‏:‏ ‏[‏الزم الشرع يا فقيه وصل‏]‏، يشعر بأنك أنت تبع الشرع، وأما نحن فلنا إلى الله طريق غير الشرع، ومن ادعى أن له طريقًا إلى الله يوصله إلى رضوان الله وكرامته وثوابه غير الشريعة التي بعث الله بها رسوله، فإنه أيضًا كافر، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، كطائفة أسقطوا التكليف، وزعموا أن العبد يصل إلى الله بلا متابعة الرسل‏.‏

و‏[‏طائفة‏]‏ يظنون أن الخواص من الأولياء يستغنون عن متابعة محمد صلى الله عليه وسلم ،كما استغنى الخضر عن متابعة موسى، وجهل هؤلاء أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسول إلى كل أحد ظاهرًا وباطنًا، مع أن قضية الخضر لم تخالف شريعة موسى، بل وافقتها، ولكن الأسباب المبيحة للفعل لم يكن موسى علمها، فلما علمها تبين أن الأفعال توافق شريعته لا تخالفها‏.‏

/ وسئل عن الذين يعملون النار والإشارات، مثل النبل والزعفران، وغير ذلك ‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما هؤلاء الذين يظهرون ‏[‏الإشارات‏]‏ كالنبل والزعفران والمسك، والنار، والجبة، فليسوا من أولياء الله الصالحين؛ بل هم من أحزاب الشياطين، وأحوالهم شيطانية ليست من كرامات الصالحين، وهم يفسدون العقول، والأديان، والأعراض، والنساء، والصبيان‏.‏ ولا يحسن الظن بهم إلا جاهل عظيم الجهالة، أو عدو لله ورسوله، فإنهم من جنس التتر المحاربين لله ورسوله‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ سئل عن رجل فلاح لم يعلم دينه ولا صلاته، وإن في بلده شيخًا أعطاه إجازة، وبقى يأكل الثعابين والعقارب، ونزل عن فلاحته، ويطلب رزقه‏.‏ فهل تجوز الصدقة عليه أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، أكل الخبائث، وأكل الحيات والعقارب حرام بإجماع المسلمين‏.‏فمن أكلها مستحلا لذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ ومن اعتقد التحريم وأكلها فإنه فاسق عاص لله ورسوله، فكيف يكون رجلا صالحًا‏؟‏‏!‏ ولو ذكى الحية لكان أكلها بعد ذلك حرامًا عند جماهير العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم‏:‏ الحية، والعقرب، والحدأة، والفأر، والكلب العقور‏)‏‏.‏

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ذلك في الحل والحرم، وسماهن فواسق؛ لأنهن يفسقن‏:‏ أي يخرجن على الناس، ويعتدين عليهم، فلا يمكن الاحتراز منهن،كما لايحترز من السباع العادية، فيكون /عدوان هذا أعظم من عدوان كل ذي ناب من السباع،وهن أخبث وأحرم‏.‏

وأما الذين يأكلون ويجعلون ذلك من باب ‏؟‏ ‏[‏كرامات الأولياء‏]‏ فهم أشر حالا ممن يأكلها من الفساق؛ لأن كرامات الأولياء لا تكون بما نهي الله عنه ورسوله، من أكل الخبائث، كما لا تكون بترك الواجبات، وإنما هذه المخاريق التي يفعلها هؤلاء المبتدعون‏:‏ من الدخول في النار،وأخذ الحيات، وإخراج اللاذن ، والسكر، والدم، وماء الورد‏.‏هي نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يفعلوا ذلك بحيل طبيعية‏.‏ مثل أدهان معروفة،يذهبون ويمشون في النار، ومثل ما يشربه أحدهم مما يمنع سم الحية‏:‏ مثل أن يمسكها بعنقصتها حتى لا تضره، ومثل أن يمسك الحية المائية، ومثل أن يسلخ جلد الحية ويحشوه طعامًا، وكم قتلت الحيات من أتباع هؤلاء‏؟‏‏!‏ ومثل أن يمسح جلده بدم أخوين؛ فإذا عرق في السماع ظهر منه ما يشبه الدم، ويصنع لهم أنواعًا من الحيل والمخادعات‏.‏

النوع الثاني‏:‏ وهم أعظم، عندهم أحوال شيطانية تعتريهم عند السماع الشيطاني، فتنزل الشياطين عليهم، كما تدخل في بدن المصروع ويزبد أحدهم كما يزبد المصروع، وحينئذ يباشر النار، والحيات / والعقارب، ويكون الشيطان هو الذي يفعل ذلك، كما يفعل ذلك من تقترن بهم الشياطين من إخوانهم، الذين هم شر الخلق عند الناس، من الطائفة التي تطلبهم الناس لعلاج المصروع، وهم من شر الخلق عند الناس، فإذا طلبوا تحلوا بحلية المقاتلة، ويدخل فيهم الجن، فيحارب مثل الجن الداخل في المصروع، ويسمع الناس أصواتًا، ويرون حجارة يرمى بها، ولا يرون من يفعل ذلك، ويرى الإنسي واقفًا على رأس الرمح الطويل، وإنما الواقف هو الشيطان، ويرى الناس نارًا تحمي، ويضع فيها الفؤوس والمساحي، ثم إن الإنسي يلحسها بلسانه، وإنما يفعل ذلك الشيطان الذي دخل فيه، ويرى الناس هؤلاء يباشرون الحيات والأفاعي وغير ذلك، ويفعلون من الأمور ما هو أبلغ مما يفعله هؤلاء المبتدعون الضالون المكذبون الملبسون، الذين يدعون أنهم أولياء الله، وإنما هم من أعاديه، المضيعين لفرائضه، المتعدين لحدوده‏.‏

والجهال لأجل هذه الأحوال الشيطانية، والطبيعية، يظنوهم أولياء الله، وإنما هذه الأحوال من جنس أحوال أعداء الله الكافرين، والفاسقين، ولا يجوز أن يعان من هؤلاء على ترك المأمور، ولا فعل المحظور، ولا إقامة مشيخة تخالف الكتاب والسنة، ولا أن يعطى رزقه على مشيخة يخرج بها من طاعة الله ورسوله، وإنما يعان بالأرزاق من قام بطاعة الله ورسوله، ودعا إلى طاعة الله ورسوله، والله أعلم‏.‏

/ وسئل عن رجل منقطع في بيته لا يخرج ولا يدخل، ويصلي في بيته، ولا يشهد الجماعة، وإذا خرج إلى الجمعة يخرج مغطى الوجه، ثم إنه يخترع العياط من غير سبب، وتجتمع عنده الرجال والنساء، فهل يسلم له حاله ‏؟‏ أو يجب الإنكار عليه‏؟‏

فأجاب ‏:‏

هذه الطريقة طريقة بدعية، مخالفة للكتاب والسنة، ولما أجمع عليه المسلمون‏.‏ والله تعالى إنما يعبد بما شرع، لا يعبد بالبدع، قال الله تعالى ‏:‏‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى ‏:‏21‏]‏، فإن التعبد بترك الجمعة والجماعة، بحيث يرى أن تركهما أفضل من شهودهما مطلقًا كفر، يجب أن يستتاب صاحبه منه، فإن تاب وإلا قتل‏.‏ فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام ألا يعبد بترك الجمعة والجماعة، بل يعبد بفعل الجمعة والجماعة، ومن جعل الانقطاع من ذلك دينًا لم يكن على دين المسلمين، بل يكون من جنس الرهبان الذين يتخلون بالصوامع والديارات، والواحد من هؤلاء قد يحصل له بسبب الرياضة، أو الشياطين ـ بتقريبه إليهم، أو غير ذلك ـ نوع كشف، وذلك لا يفيده؛ بل هو كافر بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والله تعالى أمر الخلق أن يعبدوه وحده لا يشركون به شيئًا، / ويعبدوه بما شرع، وأمر أن لا يعبدوه بغير ذلك‏.‏ قال تعالى‏:‏‏{‏فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏110‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏2‏]‏‏.‏

فالسالك طريق الزهادة والعبادة إذا كان متبعًا للشريعة في الظاهر، وقصد الرياء والسمعة، وتعظيم الناس له كان عمله باطلا لا يقبله الله‏.‏ كما ثبت في الصحيح أن الله يقول‏:‏‏(‏أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه غيري فأنا منه برىء، وهو كله للذي أشرك‏)‏‏.‏ وفي الصحيح عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏من سَمَّع سَمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به‏)‏‏.‏

وإن كان خالصًا في نيته لكنه يتعبد بغير العبادات المشروعة‏:‏ مثل الذي يصمت دائمًا، أو يقوم في الشمس، أوعلى السطح دائمًا، أو يتعرى من الثياب دائمًا، ويلازم لبس الصوف، أو لبس الليف، ونحوه أو يغطى وجهه، أو يمتنع من أكل الخبز، أو اللحم، أو شرب الماء، ونحو ذلك ـ كانت هذه العبادات باطلة، ومردودة‏.‏ كما ثبت في الصحيح عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد‏)‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ وفي صحيح البخاري عن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا قائمًا في الشمس فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا ‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ هذا أبو إسرائيل، نذر الصمت، والقيام والبروز / للشمس مع الصوم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم وحده؛ لأنه عبادة يحبها الله تعالى ،وما عداه ليس بعبادة وإن ظنها الظان تقربه إلى الله تعالى‏.‏ وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته‏:‏‏(‏إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها،وكل بدعة ضلالة‏)‏‏.‏

وثبت عنه في الصحيح‏:‏ أن قومًا من أصحابه قال أحدهم‏:‏ أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر‏:‏ أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر‏:‏ أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر‏:‏أما أنا فلا آكل اللحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما بال رجال يقول أحدهم‏:‏ كيت وكيت‏!‏ لكني أصوم وأفطر، وأنام، وأتزوج النساء،وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني‏)‏، فإذا كان هذا فيما هو جنسه عبادة، فإن الصوم والصلاة جنسها عبادة، وترك اللحم والتزويج جائز، لكن لما خرج في ذلك من السنة فالتزم القدر الزائد على المشروع، والتزم هذا ترك المباح، كما يفعل الرهبان، تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن فعل ذلك، حيث رغب عن سنته إلى خلافها، وقال‏:‏ ‏(‏لا رهبانية في الإسلام‏)‏ فكيف بمن يرغب عما هو من أعظم شعائر الإسلام، وهو الصلاة في الجمعة، والجماعات‏؟‏‏!‏

وقد روى عن ابن عباس أنهم سألوه غير مرة عمن يصوم / النهار، ويقوم الليل، ولا يشهد جمعة، ولا جماعة‏.‏ فقال‏:‏ هو في النار‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليطبعن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏من ترك ثلاث جمع تهاونًا من غير عذر طبع الله على قلبه‏)‏‏.‏ وفي الصحيح والسنن‏:‏ إن أعمى قال‏:‏ يا رسول الله، إن لي قائدًا لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هل تسمع النداء‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏فأجب‏)‏‏.‏ وفي رواية قال‏:‏‏(‏لا أجد لك رخصة‏)‏‏.‏

و‏[‏الجمعة‏]‏ فريضة باتفاق الأئمة‏.‏

و‏[‏الجماعة‏]‏ واجبة أيضًا، عند كثير من العلماء، بل عند أكثر السلف، وهل هي شرط في صحة الصلاة على قولين‏:‏

أقواهما كما في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من سمع النداء فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له‏)‏‏.‏

وعند طائفة من العلماء‏:‏ أنها واجبة على الكفاية‏.‏

و‏[‏أحد الأقوال‏]‏ أنها سنة مؤكدة، ولا نزاع بين العلماء أن صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده خمسًا وعشرين ضعفًا‏.‏

/كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولا نزاع بينهم أن من جعل صلاته وحده أفضل من صلاته في جماعة فإنه ضال مبتدع، مخالف لدين المسلمين‏.‏

وهذه البدع يذم أصحابها، ويعرف أن الله لا يتقبلها، وإن كان قصدهم بها العبادة، كما أنه لا يقبل عبادة الرهبان، ونحوهم ممن يجتهدون في الزهد والعبادة لأنهم لم يعبدوه بما شرع، بل ببدعة ابتدعوها، كما قال‏:‏‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏27‏]‏، فإن المتعبد بهذه البدع قصده أن يعظم ويزار، وهذا عمله ليس خالصًا لله، ولا صوابًا على السنة، بل هو كما يقال‏:‏ زغل، وناقص، بمنزلة لحم خنزير ميت، حرام من وجهين‏.‏

والواجب على كل مسلم التزام عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعة رسوله، والأمر بذلك لكل أحد، والنهي عن ضد ذلك لكل أحد، والإنكار على من يخرج عن ذلك، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء وليس تحت أديم السماء أحد يقر على خلاف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن كان مقرًا بالإسلام ألزمه بطاعة الرسول، واتباع سنته الواجبة، وشريعته الهادية، وإن كان غير مقر بالإسلام كان كافرًا، ولو كان له من الزهد والرهبان ماذا عسى أن يكون ‏.‏

/والكافر إن كان من أهل الذمة فله حكم أمثاله، وإن كان من أهل الحرب فله حكم أمثاله، ويجب الإنكار على هذا المبتدع وأمثاله بحسن قصد، بحيث يكون المقصود طاعة الله ورسوله، لا اتباع هوى، ولا منافسة ولا غير ذلك‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏39‏]‏‏.‏

فالمقصود أن يكون الدين كله لله، ولا دين إلا ماشرعه الله تعالى على ألسن رسله، وفي الصحيحين‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له‏:‏ يارسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء‏.‏ فأي ذلك في سبيل الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله‏)‏ فيكون المقصود علو كلمة الله، وظهور دين الله‏.‏ وأن يعلم المسلمون كلهم إن ما عليه المبتدعون المراؤون ليس من الدين، ولا من فعل عباد الله الصالحين، بل من فعل أهل الجهل والضلال والإشراك بالله تعالى، الذين يخرجون عن توحيده، وإخلاص الدين له، وعن طاعة رسله‏.‏

و‏[‏أصل الإسلام‏]‏‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏.‏ فمن طلب بعباداته الرياء والسمعة، فلم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله، / ومن خرج عما أمره به الرسول من الشريعة وتعبد بالبدعة فلم يحقق شهادة أن محمدًا رسول الله‏.‏

وإنما يحقق هذين ‏[‏الأصلين‏]‏ من لم يعبد إلا الله، ولم يخرج عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بلغها عن الله،فإنه قال‏:‏ ‏(‏تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏ما تركت من شىء يقربكم إلى الجنة إلا قد حدثتكم به،ولا من شىء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به‏)‏‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّا،وخط خطوطًا عن يمينه،وشماله ثم قال‏:‏ ‏(‏هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه‏)‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏153‏]‏‏.‏

فالعبادات والزهادات والمقالات والتورعات الخارجة عن سبيل الله ـ وهو الصراط المستقيم‏:‏ الذي أمرنا الله أن نسأله هدايته، هو ما دل عليه السنة ـ هي سبل الشيطان، ولو كان لأحدهم من الخوارق ما كان، فليس أحدهم بأعظم من مقدمهم الدجال الذي يقول للسماء‏:‏ أمطري فتمطر، وللأرضا انبتي فتنبت ،وللخربة أظهري كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة‏.‏ وهو مع هذا عدو الله، كافر بالله، وأولياء الله هم المذكورون في قوله‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62، 63‏]‏ فهم المؤمنون المتقون، والتقوى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، فمن ترك ما أمر الله، واتخذ عبادة نهى الله عنها، كيف يكون من هؤلاء ‏؟‏

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ من عادى لي وليًا‏)‏ الحديث‏.‏ فبين سبحانه أنه ما تقرب العبد إلى الله بمثل أداء ما افترض عليه‏.‏

والتقرب بالواجبات فقط طريق المقتصدين أصحاب اليمين، ثم التقرب بعد ذلك بما أحبه الله من النوافل هو طريق السابقين المقربين، والمحبوبات هي ما أمر الله به ورسوله‏:‏ أمر إيجاب، أو أمر استحباب، دون ما استحبه الرجل برأيه وهواه، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏